الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
في هذه السنة اتفق الحكم بن هشام بن عبد الرحمن أمير الأندلس وعمه عبد الله بن عبد الرحمن البلنسي. وسبب ذلك أن عبد الله لما سمع بقتل أخيه سليمان عظم عليه وخاف على نفسه ولزم بلنسية ولم يفارقهأن ولم يتحرك لإثارة فتنة وأرسل إلى الحكم يطلب المسالمة والدخول في طاعته وقيل بل الحكم أرسل إليه رسلأن وكتب إليه يعرض عليه المسالمة ويؤمنه وبذل له الأرزاق الواسعة ولأولاده فأجاب عبد الله إلى الاتفاق واستقرت القاعدة بينهم على يد يحيى بن يحيى صاحب مالك وغيره من العلماء وزوج الحكم أخواته من أولاد عمه عبد الله وسار إليه عبد الله فأكرمه الحكم وعظم محله وأجرى له ولأولاده الأرزاق الواسعة والصلات السنية. وقيل إن المراسلة في الصلح كانت هذه السنة واستقر الصلح سنة سبع وثمانين ومائة.
في هذه السنة حج بالناس هارون الرشيد سار إلى مكة من الأنبار فبدأ بالمدينة فأعطى فيها ثلاثة أعطية هوعطاء ومحمد الأمين عطاء وعبد الله المأمون عطاء وسار إلى مكة فأعطى أهلهأن فبلغ ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار. وكان الرشيد قد ولى الأمين العراق والشام وإلى آخر المغرب وضم إلى المأمون من همذان إلى آخر المشرق ثم بايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون ولقبه المؤتمن وضم إليه الجزيرة والثغور والعواصم وكان في حجر عبد الملك بن صالح وجعل خلعه وإثباته إلى المأمون. ولما وصل الرشيد إلى مكة ومعه أولاده الفقهاء والقضاة والقواد كتب كتابًا أشهد فيه على محمد الأمين وأشهد فيه من حضر بالوفاء للمأمون وكتب كتابًا للمأمون أشهدهم عليه فيه بالوفاء للأمين وعلق الكتابين في الكعبة وجدد العهود عليهما في الكعبة ولما فعل الرشيد ذلك قال الناس قد ألقى بينهم شرًا وحربًا وخافوا عاقبة ذلك فكان ما خافواه. ثم إن الرشيد في سنة تسع وثمانين شخص إلى قرماسين ومعه المأمون وأشهد على نفسه من عنده من القضاة والفقهاء أن جميع ما في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون وجدد له البيعة عليهم وأرسل إلى بغداد فجدد له البيعة على محمد الأمين.
في هذه السنة سار علي بن عيسى بن ماهان من مروإلى نسا لحرب أبي الخصيب فحاربه فقتله وسبى نساءه وذراريه واستقامت خراسان. وفيها توفي خالد بن الحارث وبشر بن المفضل وأبوإسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري. وفيها مات عبد الله بن صالح بن عبد الله بن عباس بسلمية في ربيع الأول. وفيها توفي علي بن عباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في رجب وعمره خمس وفيها توفي عمر بن يونس منصرفة من الحج باليمامة. وفيها توفي عباد بن عباد بن العوام الفقيه ببغداد وتوفي شقران بن علي الزاهد بالأندلس وكان فقيهًا. وفيها توفي راشد مولى عيسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان قد دخل المغرب مع إدريس بن عبد الله بن الحسن وقام بعده بأمر البربر أبوخالد يزيد بن إلياس.
وفي هذه السنة أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى. وكان سبب ذلك أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي وكان يحضرهما إذا جلس للشرب فقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها ولا تقربهأن فإني لا أطيق الصبر عنها فأجابه إلى ذلك فزوجها منه وكانا يحضران معه ثم يقوم عنهمأن وهما شابان فجامعها جعفر فحملت منه فولدت له غلامأن فخافت الرشيد فسيرته مع حواضن ثم إن عباسة وقع بينها وبين بعض جواريها شر فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد فحج هارون هذه السنة وبحث عن الأمر فعلمه وكان جعفر يصنع للرشيد طعامًا بعسفان إذا حج فصنع ذلك ودعاه فلم يحضر عنده فكان ذلك أول تغير أمرهم. وقيل: كان سبب ذلك أن الرشيد دفع يحيى بن عبد اله بن الحسن بن الحسن بن علي إلى جعفر بن يحيى بن خالد فحبسه ثم دعا به ليلة وسأله عن بعض أمره فقال له: اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون غدًا خصمك محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوالله ما أحدثت حدثأن ولا آويت محدثًا. فرق له وقال: اذهب حيث شئت من بلاد الله. قال: فكيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ فوجه معه من أداه إلى مأمنه. وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له من خواص جعفر فرفعه إلى الرشيد فقال: ما أنت وهذا فعله عن أمري. ثم أحضر جعفرًا للطعام فجعل يلقمه ويحادثه ثم سأله عن يحيى فقال: هوبحاله في الحبس. فقال: بحياتي ففطن جعفر فقال: لا وحياتك! وقص عليه أمره وقال: علمت أنه لا مكروه عنده. فقال: نعم ما فعلت! ما عدوت ما في نفسي. فلما قام عنه قال: قتلني الله إن لم أقتلك! فكان من أمره ما كان. وقيل: كان من الأسباب أن جعفرًا ابتنى دارًا غرم عليها عشرين ألف ألف درهم فرفع ذلك إلى الرشيد وقيل هذه غرامته على دار فما ظنك بنفقاته وصلاته وغير ذلك فاستعظمه. وكان من الأسباب أيضًا ما لا تعده العامة سببأن وهوأقوى الأسباب ما سمع من يحيى بن خالد وهو يقول وقد تعلق بأستار الكعبة في حجته هذه: اللهم إن كان رضاك أن تسلبني نعمك عندي فاسلبني! اللهم إن كان رضاك أن تسلبني مالي وأهلي وولدي فاسلبني إلا الفضل ثم ولى فلما كان عند باب المسجد رجع فقال مثل ذلك وجعل يقول: اللهم إنه سمج بمثلي أن يستثني عليك اللهم والفضل. وسمع أيضًا يقول في ذلك المقام: اللهم إن ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك. اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي بذلك في الدنيأن وإن أحاط ذلك بسمعي وبصري وولدي ومالي حتى يبلغ رضاك ولا تجعل عقوبتي في الآخرة فاستجيب له. فلما انصرفوا من الحج ونزلوا الأنبار ونزل الرشيد العمر نكبهم. وكان أول ما ظهر من فساد حالهم أن علي بن عيسى بن ماهان سعى بموسى بن يحيى بن خالد واتهمه في أمر خراسان وأعلم الرشيد أنه يكاتبهم ليسير إليهم ويخرجهم عن الطاعة فحبسه ثم أطلقه. وكان يحيى بن خالد يدخل على الرشيد بغير إذن فدخل عليه يومًا وعنده جبرئيل بن يختيشوع الطبيب فسلم فرد الرشيد ردًا ضعيفأن ثم أقبل الرشيد على جبرئيل فقال: أيدخل عليك منزلك أحد بغير إذن قال: لا! قال: فما بالنا يدخل علينا بغير إذن فقال يحيى: يا أمير المؤمنين ما ابتدأت ذلك الساعة ولكن أمير المؤمنين خصني به حتى إن كنت لأدخل وهوفي فراشه مجردأن وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب فإذا قد علمت فإني سأكون عنده في الطبقة التي تجعلني فيها فاستحيا هارون وقال: ما أردت ما تكره. وكان يحيى إذا دخل على الرشيد قام له الغلمان فقال الرشيد لمسرور: مر الغلمان لا يقومون ليحيى إذا دخل الدار فدخلها فلم يقومونأن فتغير لونه وكانوا بعد ذلك إذا رأوه أعرضوا عنه. فلما رجع الرشيد من الحج نزل العمر الذي عند الأنبار سلخ المحرم وأرسل مسرورًا الخادم ومعه جماعة من الجند إلى جعفر ليلأن وعنده ابن بختيشوع المتطبب وأبوزكار المغني وهوفي لهوه وأبوزكار يغني: فلا تبعد فكل فتىً سيأتي عليه الموت يطرق أويغادي وكل ذخيرة لا بد يومًا وإن كرمت تصير إلى نفاد قال مسرور: فقلت له: يا أبا الفضل الذي جئت له هو والله ذاك قد طرقك أجب أميرالمؤمنين فوقع على رجلي يقبلهأن وقال: حتى ادخل فأوصي فقلت: أما الدخول فلا سبيل إليه وأما الوصية فاصنع ما شئت. فأوصى بما أراد وأعتق مماليكه. وأتتني رسل الرشيد تستحثني فمضيت به إليه فأعلمته وهوفي فراشه فقال: ائتني برأسه فأتيت جعفرًا فأخبرته فقال: الله الله! والله ما أمرك بما أمرك به إلا وهوسكران فدافع حتى أصبح أوراجعه في ثانية. فعدت لأراجعه فلما سمع حسي قال: يا ماص بظر أمه ائتني برأسه! فرجعت إليه فأخبرته فقال: آمره. فرجعت فحذفني بعمود كان في يده وقال: نفيت من المهدي إن لم تأتني برأسه لأقتلنك! قال: فخرجت فقتلته وحملت رأسه إليه وأمر بتوجيه من أحاط بيحيى وولده وجميع أسبابه وحول الفضل بن يحيى ليلأن فحبس في بعض منازل الرشيد وحبس يحيى في منزله وأخذ مالهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك وأرسل من ليلته إلى سائر البلاد في قبض أموالهم ووكلائهم ورقيقهم وأسبابهم وكل ما لهم. فلما أصبح أرسل جيفة جعفر إلى بغداد وأمر أن ينصب رأسه على جسر ويقطع بدنه قطعتين تنصب كل قطعة على جسر ولم يعرض الرشيد لمحمد بن خالد بن برمك وولده وأسبابه لأنه علم براءته مما دخل فيه أهله وقيل كان يسعى بهم ثم حبس يحيى وبنيه الفضل ومحمدًا وموسى محبسًا سهلأن ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم ولا ما يحتاجون إليه من ولم تزل حالهم سهلة حتى قبض الرشيد على عبد الملك بن صالح فعمهم بسخطه وجدد له ولهم التهمة عند الرشيد فضيق عليهم. ولما قتل جعفر بن يحيى قيل لأبيه: قتل الرشيد ابنك! قال: كذلك يقتل ابنه قيل: وقد أخرب ديارك قال: كذلك تخرب دياره فلما بلغ ذلك الرشيد قال: قد خفت أن يكون ما قاله لأنه ما قال شيئًا إلا ورأيت تأويله. قال سلام الأبرش: دخلت على يحيى بن خالد وقت قبضه وقد هتكت الستور وجمع المتاع فقال: هكذا تقوم القيامة قال: فحدثت الرشيد فأطرق مفكرًا. وكان قتل جعفر ليلة السبت مستهل صفر وكان عمره سبعًا وثلاثين سنة وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة ولما نكبوا قال الرقاشي وقيل أبونواس: الآن استرحنا واستراحت ركابنا وأمسك من يحدو ومن كان يحتدي فقل للمطايا قد أمنت من السرى وطي الفيافي فدفدًا بعد فدفد وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفر ولن تظفري من بعده بمسود وقل للعطايا بعد فضل تعطلي وقل للرزايا كل يوم تجددي ودونك سيفًا برمكيًا مهندًا أصيب بسيف هاشمي مهند وقال يحيى بن خالد لما نكب: الدنيا دول والمال عارية ولنا بمن قبلنا أسوة وفينا لمن بعده عبرة. ووقع يحيى على قصة محبوس: العدوان أربقه والتوبة تطلقه. وقال جعفر بن يحيى: الحظ سمط الحكمة به تفصل شذورها وينظم منثورها. قال ثمامة: قلت لجعفر ما البيان قال: أن يكون الاسم محيطًا بمعناك مخبرًا عن مغزاك مخرجًا من الشركة غير مستعان عليه بالفكرة.
وفي هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان سبب ذلك أنه لوكان له ولد اسمه عبد الرحمن وبه كان يكنى وكان من رحال الناس فسعى بأبيه هو وقمامة كاتب أبيه وقالا للرشيد: إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع وأحضره يومأن حين سخط عليه وقال له: أكفرًا بالنعمة وجحودًا لجليل المنة والتكرمة فقال: يا أمير المؤمنين! لقد بؤت إذا بالندم وتعرضت لاستحلال النقم وما ذاك إلا بغي حاسدنأن فنسي فيك مودة القرابة وتقديم الولاية إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته وأمينه على عترته لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة ولها عليك العدل في حكمهأن والغفران لذنوبهأن والتثبت في حادثها. فقال له الرشيد: أتضع لي من لسانك وترفع لي من جنانك هنا كاتبك قمامة يخبر بغلك وفساد نيتك فاسمع كلامه. فقال عبد الملك: أعطاك ما ليس في عقده ولعله لا يقدر أن يعضهني أويبهتني بما لم يعرفه مني. فأحضر قمامة فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف! فقال: أقول إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك. فقال عبد الملك: كيف لا يكذب علي من خلفي من يبهتني في وجهي فقال الرشيد: فهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك وفساد نيتك ولو أردت أن أحتج عليك لم أجد أعدل من هذين الاثنين لك فلم تدفعهما عنك فقال عبد الملك: هو مأمور أو عاق مجبور فإن كان مأمورًا فمعذور وإن كان عاقًا ففاجر كفور أخبر الله عز وجل بعداوته وحذر منه بقوله: فقال عبد الملك: رضيت بالله حكما وبأمير المؤمنين حاكما فإني أعلم أنه لن يؤثر هواه على رضى ربه. وأحضر الرشيد يومًا آخر فكان مما قال له: أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد ثم قال: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع وعارضها قد بلع وكأني بالوعيد قد أورى زنادًا يسطع فأقلع عن براجم بلا معاصم ورؤوس بلا غلاصم فمهلًا مهلًا بني هاشم فبي والله سهل لكم الوعر وصفا لكم الكدر وألقت إليكم الأمور أزمتها فنذار لكم نذار قبل حلول داهية خبوط باليد لبوط بالرجل. فقال بعد الملك: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك من رعيته التي استرعاك ولا تجعل الكفر مكان الشكر ولا العقاب موضع الثواب فقد نخلت لك النصيحة ومحضت لك الطاعة وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم وتركت عدوك مشتغلا فالله! فالله في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن وصلته بظن أوضح الكتاب بعضهه أوببغي باغ ينهس اللحم ويلغ الدم فقد والله سهلت لك الوعور وذللت لك الأمور وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور فكم ليل تمام فيك كابدته ومقام ضيق لك قمته كنت فيه كما قال أخوبني جعفر بن ومقام ضيق فرجته ببناني ولسان وجدل لويقوم الفيل أوفياله زل عن مثل مقامي وزحل فقال له الرشيد: والله لولا إبقائي على بني هاشم لضربت عنقك ثم أعاده إلى محبسه. فدخل عبد الله بن مالك على الرشيد وكان على شرطته فقال له: والله العظيم يا أمير المؤمنين ما علمت عبد الملك إلا ناصحا فعلام حبسته فقال: بلغني عنه أوحشني ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين يعني الأمين والمأمون فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه. فقال: أما إذا حبسته فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه ولكن تحبسه محبسًا كريمًا. قال: فإني أفعل فأمر الفضل بن الربيع أن يمضي إليه وينظر ما يحتاج إليه فيوظفه له ففعل. ولم يزل عبد الملك محبوسا حتى مات الرشيد فأخرجه الأمين واستعمله على الشام فأقام بالرقة وجعل لمحمد الأمين عهد الله لئن قتل وهوحي لا يعطي المأمون طاعة أبدا فمات قبل الأمين وكان ما قال للأمين: إن خفت فالجأ إلي فوالله لأصوننك. وقال الرشيد يومًا لعبد الملك: ما أنت لصالح! قال: فلمن أنا قال: لمروان الجعدي. قال: ما أبالي أي الفلحين غلب علي. وأرسل الرشيد يومًا إلى يحيى بن خالد بن برمك: إن عبد الملك أراد الخروج علي ومنازعتي في الملك. وعلمت ذلك فأعلمني ما عندك فيه فإنك فقال: والله ما اطلعت من عبد الملك على شيء من هذا ولواطلعت عليه لكنت صاحبه دونك لأن ملكك كان ملكي وسلطانك كان سلطاني والخير والشر كان فيه علي ولي وكيف يطمع عبد الملك في ذلك مني وهل كان إذا فعلت به ذلك يفعل معي أكثر من فعلك وأعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن ولكنه كان رجلًا محتملًا يسرني أن يكون في اهلك مثله فوليته لما حمدت أثره ومذهبه وملت إليه لأدبه واحتماله. فلما أتاه الرسول بهذا أعاده عليه فقال له: إن أنت لم تقر عليه قتلت الفضل ابنك. فقال له: أنت مسلط علينا فافعل ما أردت فأخذ الرسول الفضل فأقامه فودع أباه وقال له: ألست راضيًا عني قال: بلى فرضي الله عنك ففرق بينهما ثلاثة أيام فلما لم يجد عندهما في ذلك شيئًا جمعهما.
وفي هذه السنة دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم في شعبان فأناخ على قرة وحصرها ووجه العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث فحصر حصن سنان حتى جهد أهلها فبعث إليه الروم ثلاثمائة وعشرين أسيرًا من المسلمين على أن يرحل عنهم فأجابهم ورحل عنهم ومات علي بن عيسى في هذه الغزاة بأرض الروم وكان يملك الروم حينئذ امرأة اسمها ريني فخلعتها الروم وملكت نقفور وتزعم الروم إنه من أولاد جغنة بن غسان وكان قبل أن يملك يلي ديوان الخراج وماتت ريني بعد خمسة أشهر من خلعها. فلما استوثقت الروم لنقفور كتب إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مكان البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أضعافها إليها لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك وإلا فالسيف بيننا وبينك. فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب حتى لم يقدر أحد أن ينظر إليه دون أن يخاطبه وتفرق جلساؤه فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام. ثم سار من يومه حتى نزل على هرقلة ففتح وغمن وأحرق وخرب فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله كل سنة فأجابه في ذلك. فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض نقفور العهد وكان البرد شديدا فأمن رجعة الرشيد إليه فلما جاء الخبر بنقضه ما جسر أحد على إخبار الرشيد خوفًا على أنفسهم من العود في مثل ذلك البرد وإشفاقًا من الرشيد فاحتيل له بشاعر من أهل جنده وهوأبومحمد عبد الله بن يوسف وقيل هوالحجاج بن يوسف التميمي فقال أبياتًا منها: نقض الذي أعطيته نقفور فعليه دائرة البوار تدور أبشر أمير المؤمنين فإنه فتح أتاك به الإله كبير فتح يزيد على الفتوح يؤمنا بالنصر فيه لواؤك المنصور في أبيات غيرها. فلما سمع الرشيد ذلك قال: أوقد فعل ذلك نقفور وعلم أن الوزراء قد احتالوا له في ذلك فرجع إلى بلاد الروم في أشد زمان وأعظم كلفة حتى بلغ بلادهم فأقام بها حتى شفي واشتفى وبلغ ما أراد. وقيل: كان فعل نقفور وهذه الأبيات سببًا لسير الرشيد وفتح هرقلة على ما نذكره سنة تسعين ومائة إن شاء الله تعالى.
وفيها قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك وسبب قتله أنه كان كثيرًا ما يذكرجعفر بن يحيى والبرامكة ويبكي عليهم إلى أن خرج من البكاء إلى حد طالبي الثأر فكان إذا شرب النبيذ مع جواريه أخذ سيفه ويقول: واجعفراه! واسيداه! والله لأقتلن قاتلك ولأثأرن بدمك. فلما كثر هذا منه جاء ابنه فأعلم الرشيد هوخصي كان لإبراهيم فأحضر إبراهيم وسقاه نبيذًا فلما أخذ منه النبيذ قال له: إني قد ندمت على قتل جعفر بن يحيى ووددت أني خرجت من ملكي وأنه كان بقي لي فما وجدت طعم النوم مذ فارقته. فلما سمعها إبراهيم أسبل دموعه وقال: رحم الله أبا الفضل! والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله وأوطئت العشوة في أمره وأين يوجد في الدنيا مثله فقال الرشيد: قم! عليك لعنة الله يا ابن اللخناء فقام وما يعقل ما يطأ فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه فضربه بالسيف إلا ليال قلائل.
في هذه السنة ملك الفرنج مدينة تطيلة بالأندلس وسبب ذلك أن الحكم صاحب الأندلس استعمل على ثغور الأندلس قائدًا كبيرًا من أجناده اسمه عمروس بن يوسف فاستعمل ابنه يوسف على تطيلة وكان قد انهزم من الحكم أهل البيت من الأندلس أولوقوة وبأس لأنهم خرجوا عن طاعته فالتحقوا بالمشركين فقوي أمرهم واشتدت شوكتهم وتقدموا إلى مدينة تطيلة فحصروها وملكوها من المسلمين فأسروا أميرها يوسف بن عمروس وسجنوه بصخرة قيس. واستقر عمروس بن يوسف بمدينة سرقسطة ليحفظها من الكفار وجمع العساكر وسيرها مع ابن عم له فلقي المشركين وقاتلهم ففض جمعهم وهزمهم وقتل أكثرهم ونجا الباقون منكوبين وسار الجيش إلى صخرة قيس فحصروها وافتتحوها ولم يقدر المشركون على منعها منهم لما نالهم من الوهن بالهزيمة ولما فتحها المسلمون خلصوا يوسف بن عمروس أمير الثغر وسيروه إلى أبيه وعظم أمر عمروس عند المشركين وبعد صوته فيهم وأقام في الثغر أميرًا عليه. كان الحكم في صدر ولايته تظاهر بشرب الخمر والانهماك في اللذات وكانت قرطبة دار علم وبها فضلاء في العلم والورع منهم: يحيى بن يحيى الليثي راوي موطإ مالك عنه وغيره فثار أهل قرطبة وأنكروا فعله ورجموه بالحجارة وأرداوا قتله فامتنع منهم بمن حضر من الجند ثم بعد أيام اجتمع وجوه أهل قرطبة وفقهاؤها وحضروا عند محمد بن القاسم القرشي المرواني عم هشام بن حمزة وأخذوا له البيعة على أهل البلد وعرفوه أن الناس قد ارتضوه كافة فاستنظر ليلة ليرى رأيه ويستخير الله سبحانه وتعالى فانصرفوا فحضر عند الحكم وأطلعه على الحال وأعلمه أنه على بيعته فطلب الحكم تصحيح الحال عنده فأخذ معه بعض ثقات الحكم وأجلسه في قبة في داره وأخفى أمره وحضر عنده القوم يستعملون منه هل تقلد أمرهم أم لأن فأراهم المخافة على نفسه وعظم الخطب عليهم وسألهم تعداد أسمائهم ومن معهم فذكروا له جميع من معهم من أعيان البلد وصاحب الحكم يكتب أسماءهم فقال لهم محمد بن القاسم: يكون هذا الأمر يوم الجمعة إن شاء الله في المسجد الجامع. ومشى إلى الحكم مع صاحبه فأعلماه جلية الحال وكان ذلك يوم الخميس فما أتى عليه الليل حتى حبس الجماعة المذكورين عن آخرهم ثم أمر بهم بعد أيام فصلبوا عند قصره وكانوا اثنين وسبعين رجلا منهم: أخويحيى بن يحيى وابن أبي كعب وكان يومهم يومًا شنيعا فتمكنت عداوة الناس للحكم.
وفيها زلزلت المصيصة فانهدم سورها ونضب ماؤها ساعة من الليل. وفيها خرج عبد السلام بآمد فحكم فقتله يحيى بن سعيد العقيلي. وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة فوهبه لله وجعله قربانًا له وولاه العواصم. وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن العباس بن محمد بن علي. وفيها توفي الفضيل بن عياض الزاهد وكان مولده بسمرقند وانتقل إلى مكة فمات بها. وفيها توفي المعمر بن سليمان بن طرخان التيمي أبومحمد البصري. وكان مولده سنة ست أوسبع ومائة وعمر بن عبيد الطنافسي الكوفي. وفيها توفي أبومسلم معاذ الهراء النحوي وقيل كنيته أبوعلي وعند أخذ الكسائي النحو وولد أيام يزيد بن عبد الملك.
في هذه السنة غزا إبراهيم بن جبرئيل الصائفة فدخل أرض الروم من درب الصفصاف فخرج إليه نقفور ملك الروم فأتاه من ورائه أمر صرفه عنه ولقي جمعًا من المسلمين فجرح ثلاث جراحات وقتل من الروم فيما قيل أربعون ألفًا وسبعمائة. وفيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق. وحج بالناس فيها الرشيد فقسم أموالًا كثيرة وهي آخر حجة حجها في قول بعضهم. وفيها توفي جرير بن عبد الحميد الضبي الرازي وله ثمان وسبعون سنة. وفيها توفي العباس بن الأحنف الشاعر وقيل سنة ثلاثة وتسعين ومات أبوه الأحنف سنة خمسين ومائة. وفيها توفي شهيد بن عيسى بالأندلس وعمره ثلاث وتسعون سنة وكان دخوله الأندلس مع عبد الرحمن بن معاوية. شهيد بضم الشين المعجمة وفتح الهاء.
وفي هذه السنة سار الرشيد إلى الري وسبب ذلك أن الرشيد لما استعمل علي بن عيسى بن ماهان على خراسان ظلم أهلها وأساء السيرة فيهم فكتب كبراء أهلها وأشرافها إلى الرشيد يشكون سوء سيرته وظلمه واستخفافه بهم وأخذ أموالهم. وقيل للرشيد: إن علي بن عيسى قد أجمع على الخلاف فسار إلى الري في جمادى الأولى ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم وكان قد جعله ولي عهد بعد المأمون وجعل أمره إلى المأمون إن شاء أقره وإن شاء خلعه وأحضر القضاة والشهود وأشهدهم أن جميع ما في عسكره في الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون وليس له فيه شيء. وأقام الرشيد بالري أربعة أشهر حتى أتاه علي بن عيسى من خراسان فلما قدم عليه أهدى له الهدايا الكثيرة والأموال العظيمة وأهدى لجميع من معه من أهل بيته وولده وكتابه وقواده من الطرف والجواهر وغير ذلك ورأى الرشيد خلاف ما كان يظن فرده إلى خراسان. ولما أقام الرشيد بالري سير حسينًا الخادم إلى طبرستان وكتب معه أمانًا لشروين أبي قارن وأمانًا لوندا هرمز جد مازيار وأمانًا لمرزبان بن جستان صاحب الديلم فقدم جستان ووندا هرمز فأكرمهما وأحسن إليهما وضمن وندا هرمز السمع والطاعة وأداء الخراج عن شروين. ورجع الرشيد إلى العراق ودخل بغداد في آخر ذي الحجة. فلما مر بالجسر أمر بإحراق جثة جعفر بن يحيى ولم ينزل بغداد ومضى من فوره إلى الرقة ولما جاز بغداد قال: والله إني لأطوي مدينة ما وضع بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منها وإنها لدار مملكة بني العباس ما بقوا وحافظوا عليها ولا رأى أحد من آبائي سوءًا ولا نكبة منها ولنعم الدار هي ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق والبغض لأئمة الهدى والحب لشجرة اللعنة بني أمية مع ما فيها من المارقة والمتلصصة ومخيفي السبيل ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت. فقال العباس بن الأحنف في طي الرشيد بغداد: ما أنحنا حتى ارتحلنا فمانف رق بين المناخ والارتحال ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا فقرنا وداعهم بالسؤال .
|